فصل: قال مجد الدين الفيروزابادي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم يقول الحق سبحانه عن مريم: {قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي}.
(أَنَّى) استفهام عن الكيفيات التي يمكن أن تتم بها هذه المسألة، وتعجُّب كيف يحدث ذلك.
وقوله: {يَمْسَسْنِي} [مريم: 20] المسّ هنا كناية وتعبير مُهذَّب عن النكاح، وقد نفتْ السيدة مريم كل صور اللقاء بين الذكر والأنثى حين قالت: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20] فالتقاء الذكر بالأنثى له وسائل: الوسيلة الأولى: هي الزواج الشرعي الذي شرعه الله لعباده للتكاثر وحِفْظ النسل، وهو إيجاب وقبول، وعقد وشهادة، وهذا هو المسّ الحلال.
الوسيلة الثانية: أنْ يتم هذه اللقاء بصورة محرمة بموافقة الأنثى أو غَصْبًا عنها. وقد نفتْ مريم عن نفسها كل هذه الوسائل فقالت: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20] لا في الحلال، ولا في الحرام، وأنا بذاتي {لَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20] إذن: فمن أين لي بالغلام؟
وكلمة: مسَّ جاءتْ في القرآن للدلالة على الجماع، كما في قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] فالمراد بالمسّ هنا الجماع، لذلك فقد فسر الإمام أبو حنيفة قوله تعالى: {لاَمَسْتُمُ النساء} [النساء: 43] بأنه الجماع؛ لأن القرآن أطلق المسَّ، وأراد به النكاح، والمسُّ فعل من طرف واحد، أما الملامسة فهي مُفَاعلة بين اثنين، فهي من باب أَوْلَى تعني: جامعتم.
وقولها: {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20] البغِيُّ: هي المرأة التي تبغي الرجال. والبِغَاء: هو الزنا، والبَغِيّ: التي تعرض نفسها على الرجال وتدعوهم، وربما تُكرههم على هذه الجريمة.
وقولها: {بَغِيًّا} [مريم: 20] مبالغة في البَغْي وهو الظلم، واختارتْ صيغة المبالغة بَغِيّ ولم تقُلْ باغية؛ لأن باغية تتعلق بحقوق ما حول العِرْض، أما الاعتداء على العِرْض ذاته فيناسبه المبالغة في هذا الفعل.
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ} كما قال الحق سبحانه لزكريا حينما تعجب أن يكون له ولد: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ} [مريم: 9] أي: أنا أعرف ما أنت فيه من كِبَر السن، وأن امرأتك عاقر لا تلِد، لكن الأمر جاء من الله وصدر حكمه، وهو وحده الذي يملك التنفيذ، فَلِمَ التعجب إذن؟
وهنا نجد بعض المتورِّكين على القرآن يعترضون على قوله تعالى: {كَذَلِكَ} بالفتح في قصة زكريا وبالكسر في قصة مريم {كذلكِ}، والسياق والمعنى واحد، وأيُّهما أبلغ من الأخرى، وإنْ كانت أحدهما بليغة فالأخرى غير بليغة؟
وهذا الاعتراض منهم ناتج عن قصور فَهْمهم لكلام الله، فكلمة (كذلك) عبارة عن ذا اسم إشارة، وكاف الخطاب التي تُفتح في خطاب المذكر، وتُكسر في خطاب المؤنث.
وهنا أيضًا قال: (ربك) أي: الذي يتولى تربيتك ورعايتك، والذي يُربيه ربُّه يربيه تربية كاملة تعينه على أداء مهمته المرادة للمربِّي.
وقوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 21] كما قال في مسألة البعث بعد الموت: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] فكلمة هيّن وأَهْوَن بالنسبة للحق تبارك وتعالى لا تُؤخَذ على حقيقتها؛ لأن هَيِّن وأهوَنَ تقتضي صعب وأصعب، وهذه مسائل تناسب فِعْلَ الإنسان في معالجته للأشياء على قَدْر طاقته وإمكاناته، أما بالنسبة للخالق سبحانه فليس عنده هَيِّن وأهون منه؛ لأنه سبحانه لا يفعل الأفعال مُعَالجةً، ولا يزاولها، وإنما بقوله تعالى: {كُنْ}.
فالحق سبحانه يخاطبنا على قَدْر عقولنا، فقوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 21] أي: بمنطقكم أنتم إنْ كنت قد خَلقْتكم من غير شيء، فإعادتكم من شيء موجود أمر هَيِّن.
ثم يقول تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا} [مريم: 21].
هل كان الغرض من خَلْق عيسى عليه السلام على هذه الصورة أن يُظهِر الحق سبحانه قدرته في الخلق وطلاقة قدرته فقط؟ لا، بل هناك هدف آخر {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} [مريم: 21] أي: أمرًا عجيبًا، يخرج عن مألوف العادة والأسباب، كما نقول: هذا آية في الحُسْن، آية في الذكاء، فالآية لا تُقال إلا للشيء الذي يخرج عن معتاد التناول.
والآية هنا أن الخالق تبارك وتعالى كما خلق آدم عليه السلام من غير أب أو أم، وخلق حواء من غير أم، خلق عيسى عليه السلام من أم دون أب، ثم يخلقكم جميعًا من أب وأم، وقد يوجد الأب والأم ولا يريد الله لهما فيجعل مَنْ يشاء عقيمًا.
إذن: فهذا الأمر لا يحكمه إلا إرادة المكوِّن سبحانه. فالآية للناس في إنْ يعلموا طلاقة قدرته تعالى في الخَلْق، وأنها غير خاضعة للأسباب، وليستْ عملية ميكانيكية، بل إرادة للخالق سبحانه أن يريد أو لا يريد.
لكن، أكانتْ الآية في خَلْق عيسى عليه السلام أَمْ في أمه؟ كان من الممكن أنْ يوجد عيسى من أب وأم، فالآية إذن في أمه، إنما هو السبب الأصيل في هذه الآية؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] فعيسى ومريم آية واحدة، وليسا آيتين؛ لأنهما لا ينفصلان.
ثم يقول تعالى: {وَرَحْمَةً مِّنَّا} [مريم: 21] ووجْه الرحمة في خَلْق عيسى عليه السلام على هذه الصورة، أنه سبحانه يرحم الناس من أنْ يشكُّوا في أن قدرة الله منوطة بالأسباب ومتوقفة عليها، ولو كان هذا الشكُّ مجرد خاطر، فإنه لا يجوز ولا يصحّ بالنسبة للخالق سبحانه، وكأنه تبارك وتعالى يرحمنا من مجرد الخواطر بواقع يؤكد أن طلاقة القدرة تأتي في الخَلْق من شيء، ومن بعض شيء، ومن لا شيء.
وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 21] أي: مسألة منتهية لا تقبل المناقشة، فإياك أن تناقش في كيفيتها؛ لأن الكلام عن شيء في المستقبل إنْ كان من متكلم لا يملك إنفاذ ما يقول فيمكن ألاَّ يتم مراده لأيِّ سبب من الأسباب كأن تقول: سأفعل غدًا كذا وكذا، ويأتي غد ويحول بينك وبين ما تريد أشياء كثيرة ربما تكون خارجة عن إرادتك، إذن: فأنت لا تملك كُلَّ عناصر الفعل.
أما إذا كان الكلام من الله تعالى الذي يملك كل عناصر الفعل فإن قوله حَقٌّ وواقع، فقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 21].
ولما تكلمنا عن تقسيمات الأفعال بين الماضي الذي حدث قبل الكلام، والمضارع الذي يحدث في الحال، أو في الاستقبال قلنا: إن هذه الأفعال بالنسبة للحق سبحانه تنحل عنها الماضوية والحالية والاستقبالية.
فإذا قال تعالى: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفتح: 14] فهل كان الحق سبحانه غفورًا رحيمًا في الماضي، وليس كذلك في الحاضر والمستقبل؟ لا، لأن الحق سبحانه كان ولا يزال غفورًا رحيمًا، فرحمتُه ومغفرتُه أزلية حتى قبل أنْ يوجدَ مَنْ يغفر له ومَنْ يرحمه.
لذلك جاء الفعل بصيغة الماضي، فالصفة موجودة فيه سبحانه أزلًا، فهو سبحانه خالق قبل أن يخلق الخَلْق وبصفة الخَلْق خَلَقَ، كما ضربنا مثلًا لذلك: نقول فلان شاعر، فهل هو شاعر لأنه قال قصيدة؟ أم قال القصيدة لأنه شاعر، وبالشعر صنع القصيدة؟ إذن: فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة، ولولا وجود الصفة فيه ما قال.
فالصفة إذن أزلية في الحق سبحانه، فإذا قلت: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفتح: 14] فقد ثبتتْ له هذه الصفة أزلًا، ولأنه سبحانه لا يتغير، ولا يعارضه أحد فقد بقيتْ له، هذا معنى: كان ولا يزال.
وهذه المسألة واضحة في استهلال سورة النحل: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] لذلك وقف بعض المستشرقين أمام هذه الآية، كيف يقول سبحانه (أَتَى) بصيغة الماضي، ثم يقول: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] أي: في المستقبل؟ نقول: لأن قوله تعالى: {أتَى} فهذه قضية منتهية لا شكّ فيها ولا جدالَ، فليس هناك قوة أخرى تعارضها أو تمنع حدوثها؛ لذلك جاءت بصيغة الماضي وهي في الواقع أمر مستقبل. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)}.
قوله: {إِذِ انتبذت}: في {إذ} أوجهٌ، أحدُها: أنَّها منصوبةٌ ب {اذكر} على أنها خَرَجَتْ عن الظرفية، إذ يستحيل أنْ تكونَ باقيةً على مُضِيِّها. والعاملُ فيها ما هو نَصٌّ في الاستقبال. الثاني: أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم تقديره: واذكر خبرَ مريم، أو نَبَأَها، إذ انْتَبَذَتْ، ف {إذ} منصوبٌ بذلك الخبر أو النبأ. والثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوف تقديره: وبَيَّنَ، أي: اللهُ تعالى، فهو كلامُ آخرُ. وهذا كما قال سيبويه في قوله: {انتهوا خَيْرًا لَّكُمْ} [النساء: 171] وهو في الظرف أقوى وإنْ كان مفعولًا به. والرابع: أن يكونَ منصوبًا على الحال مِنْ ذلك المضافِ المقدَّر، أي: خبر مريم أو نبأ مريم. وفيه بُعْدٌ. قاله أبو البقاء. والخامس: أنه بدلٌ مِنْ {مريمَ} بدلُ اشتمال. قال الزمخشري: (لأنَّ الأحيانَ مشتملةٌ على ما فيها، وفيه: أنَّ المقصودَ بِذِكْر مريم ذِكْرُ وقتها هذا لوقوع هذه القصةِ العجيبةِ فيه).
قال أبو البقاء:- بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجهَ- (وهو بعيدٌ؛ لأنَّ الزمانَ إذا لم يكنْ حالًا من الجثة ولا خبرًا عنها ولا صفةً لها لم يكن بَدَلًا منها). وفيه نظرٌ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صحةِ ما ذَكَرَ عَدَمُ صحةِ البدلية، ألا ترى نحو: (سُلِبَ زيدٌ ثوبُه) ف (ثوبُه) لا يَصِحُّ جَعْلُه خبرًا عن (زيد) ولا حالًا منه ولا وصفًا له، ومع ذلك فهو بدلٌ اشتمالٍ.
السادس: أنَّ إذ بمعنى أَنْ المصدرية كقولك: (لا أُكْرِمُك إذ لم تكرِمْني)، أي: لأنَّك لا تُكْرِمُني، فعلى هذا يَحْسُن بدلُ الاشتمال، أي: واذكر مريمَ انتباذَها. ذكره أبو البقاء.
والانْتِباذُ: افتعالٌ من النَّبْذِ وهو الطَّرْحُ، وقد تقدَّم بيانُه.
{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)}.
والجمهورُ على ضَمِّ الراء مِنْ {رُوْحِنا} وهو ما يَحْيَوْن به. وقرأ أبو حيوة وسهلٌ بفتحها، أي: ما فيه راحةٌ للعباد كقوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89]. وحكى النقاش أنه قد قُرِئ {رُوْحَنَّا} بتشديدِ النون، وقال: هو اسم مَلَكٍ من الملائكة.
قوله: {بَشَرًا سَوِيًّا} حالٌ مِنْ فاعل {تَمَثَّلَ}. وسَوَّغ وقوعَ الحالِ جامدة وَصْفُها، فلمَّا وُصِفَتِ النكرةُ وقعت حالًا.
{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)}.
قوله: {لأَهَبَ}: قرأ نافع وأبو عمرو {لِيَهَبَ} بالياء والباقون {لأَِهَبَ} بالهمزة. فالأُوْلَى: الظاهرُ فيها أنَّ الضميرَ للربِّ، أي: ليَهَبَ الرَّبُّ. وقيل: الأصلُ: لأَهَبَ بالهمز، وإنما قُلِبَتِ الهمزةُ ياءً تخفيفًا؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ فتتَّفِقُ القراءتان وفيه بُعْدٌ. وأمَّا الثانيةُ فالضميرُ للمتكلم، والمرادُ به المَلَكُ وأسنده لنفسِه لأنه سببٌ فيه. ويجوز أَنْ يكونَ الضمير لله تعالى ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف. ويُقَوِّي الذي قبله أنَّ في بعض المصاحف: أَمَرَني أَنْ أَهَبَ لك.
وقوله: {إِن كُنتَ تَقِيًّا} [مريم: 18] جوابُه محذوفٌ أو متقدم.
{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)}.
قوله: {بَغِيًّا}: في وزنِه قولان، أحدُهما- وهو قولُ المبردِ- أنَّ وزنَه فُعول، والأصل بَغُوْيٌ فاجتمعت الياء والواو فَفُعِل فيه ما هو معروفٌ. قال أبو البقاء: (ولذلك لم تَلْحَقْ تاءُ التأنيث كما لم تَلْحَقْ في صبور وشكور). ونَقَل الزمخشري عن أبي الفتح أنها فَعِيْل، قال: (ولو كانَتْ فَعُولًا لقيل: بَغُوٌ، كما يقال: فلان نَهُوٌ عن المنكر) ولم يُعْقِبْه بنكير. ومَنْ قال: إنها فَعِيْل فهل هي بمعنى فاعِل او بمعنى مَفعول؟ فإنْ كانَتْ بمعنى فاعِل فينبغي أَنْ تكونَ بتاء التأنيث نحو: امراةٌ قديرةٌ وبَصيرة. وقد أُجيب عن ذلك: بأنها بمعنى النسب كحائِض وطالِق، أي ذات بَغْي. وقال أبو البقاء حين جَعَلَها بمعنى فاعِل: (ولم تَلْحَقِ التاءُ أيضًا لأنها للمبالغة) فجعل العلةَ في عدم اللِّحاق كونَه للمبالغة. وليس بشيءٍ. وإن قيل بأنها بمعنى مَفْعول فَعَدَمُ الياءِ واضحٌ.
{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)}.
قوله: {كذلك}: تقدَّم نظيرُه.
قوله: {وَلِنَجْعَلَه} يجوز أن يكونَ علةً، ومُعَلَّلُه محذوفٌ تقديره: لنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك. ويجوز أَنْ يكونَ نَسَقًا على علةٍ محذوفةٍ تقديره: لِنُبَيِّنَ به قُدْرَتَنا ولنجعَله آيةً. والضميرُ عائدٌ على الغلام، واسم {كان} مضمرٌ فيها، أي: وكان الغلامُ، أي: خَلْقُه وإيجادُه أمرًا لابد منه. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في البشر:
وهو جَمْع البَشَرة، وهى ظاهر الجِلْد. والأَدَمَة: باطنُه. ويجمع على أَبشار أَيضًا. وعُبّر عن الإِنسان بالبَشَر؛ اعتبارًا بظهور جلده من الشَعَر؛ بخلاف الحيوانات التي عليها الصّوف، أَو الشعرَ، أَو الوبر. ويستوى في لفظ البَشَر الواحد والجمع، وثُنِّىَ فقال- تعالى-: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ}. وقد ورد في القرآن على ثلاثة عشر وجهًا:
الأَوّل: بمعنى أَبينا آدم الصّفِىّ: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ} {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}.
الثانى: بمعنى شَيخ المرسلين نوح: {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ}.
الثالث: بمعنى صالحٍ النبىّ: {أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ}.
الرّابع: بمعنى يوسف الصّديق: {مَا هذا بَشَرًا}.
الخامس: بمعنى موسى وهارون: {فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا}.
السّادس: بمعنى جبريل: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}.
أَى مَلَكا.
ونبّه أَنه تشبّحَ لها بصورة بشر.
السّابع: بمعنى ابن ماثان: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}.
الثامن: بمعنى شخص من الإِسرائيليين: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدًا} أَى من بنى إِسرائيل.
التَّاسع: بمعنى الغلامَين العجميّين اللذين قال كفَّار مكّة: إِنَّ محمّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم يتعلَّم القرآن وأَخبار الماضين منهما: {يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} إِنما يعنون جَبْرًا ويسارًا.
العاشر: بمعنى النبىّ صلَّى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} وفيه تنبيه أَنَّ الناس يتساوون في البشريّة، وإِنَّما يتفاضلون بما يختصون به من المعارف الجليلة، والأَعمال الجميلة.
ولذلك قال بعده: {يُوحَى إِلىّ} تنبيها أَنِّى بذلك تميّزتُ عنكم.
الحادى عشر: بمعنى جُمْلة المرسلين: {فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}.
الثانى عشر: بمعنى جَمْع البشرة: {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ}.
الثالث عشر: بمعنى جُمْلَة الآدميّين: {ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} ولها نظائر. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)}.
اعتزلت عنهم لتحصيلٍ يطهرها، فاستترت عن أبصارهم.
فلمَّا أبصرت جبريلَ في صورةِ إنسانٍ لم تتوقعه أَحَسَّتْ في نفسها رُعْبًا، ولم تكن لها حيلةٌ إلا تخويفه بالله، ورجوعها إلى الله.
{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)}.
قالت مريمُ لجبريل- وهي لم تعرفه- إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت ممن يجب أن يُخَافَ ويُتَقَّى منه؛ أي إنْ كنتَ تَقْصِد السوءَ. ومعنى قولها {بالرحمن} ولم تقل: (بالله)- أي بالذي يرحمني فيحفظني منك.
ويقال يحتمل أن يكون معناه: إن كنتَ تعرف الله وتكون متقيًا مخالفة أمره فإنِّي أعوذ بالله منك وأحذر عقوبته.
{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)}.
تعرَّف جبريلُ إليها بما سكَّن رَوْعَها، وقَرَنَ مقالته بالتبشير لها بعيسى عليه السلام.
{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)}.
قالت أنى يكونُ لي وَلَدٌ ولم أُلِمّ بِزلَّةٍ ولا فاحشةٍ؟ فقال جبريلُ- عليه السلام-: الأمرُ كما قلتُ لَكِ؛ فلا يتعّصى ذلك على الله تعالى؛ إذ هو أَقْدَرُ أَنْ يجعل هذا الوَلَدَ دلالةً على كمال قدرته، ويكون هذا الولدُ رحمةً منه- سبحانه- لِمَنْ آمَنَ، وسَبَبَ جهلٍِ للآخرين. اهـ.